- السؤال: السلام عليكم… فضيلة الشيخ: بارك الله جهدك وغفر ذنبك، لي سؤال: أعيش في دولة غربية، ولي صديق غير مسلم ويمر بأزمة وقد طلب مني قرضا، وقد أمهلته حتى أسأل، فهل يجوز أن أقرضه أم لا؟ أرجو إفادتي مشكورا….
ملخص الفتوى:
أمرنا الله بالبر والإقساط لغير المسلم ما لم يكن محاربا، ولذلك لا أرى مانعا من أن يقرض المسلم غير المسلم؛ بل هذا يدخل في حسن الخلق، كما يدخل في باب تأليف القلوب، ولكن يشترط ألا يكون هذا الشخص (غير المسلم) محاربا أو معاديا للبشرية أو داعيا لسوء الخلق، وأن يكون احتياجه للمال ضرورة أو حاجة تقوم مقام الضرورة، وألا يكون سيستخدم المال فيما هو مجمع على تحريمه في الشرائع، فلو علم أنه سيستخدم المال في خمر أو زنا أو ما شابه ذلك فلا يعطه مالا.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛
فأسأل الله أن يبارك فيك، وأن يغفر لي ولك وللمؤمنين والمؤمنات…
فقد ذكرت في فتوى سابقة أن تنفيس الكرب من أعظم القربات، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”.
ولا يوجد نص يجعلنا نحرم غير من المسلم من القرض، ولئن كان حديث أبي هريرة السابق جعل التنفيس والتعسير للمسلم؛ فإن حديث بريدة جعل الأمر عاما، روى أحمد عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ، فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» (قال محققو المسند: حديث صحيح، وصححه الألباني).
ومعلوم أن الإقراض لغير المسلم يدخل في عموم (البر) الذي جاءت به آية الممتحنة، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، قال ابن كثير: أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم أن تبروهم أي تحسنوا إليهم… (تفسير ابن كثير ط العلمية (8/ 118). وقد زعم البعض أن هذه الآية منسوخة، ورد عليهم القرطبي بقوله: وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة… (تفسير القرطبي (18/ 59).
ومن جميل ما جاءت به سورة الإنسان قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، فالإطعام هنا شمل ثلاثا: المسكين واليتيم والأسير، ومعلوم أن الأسير لا يكون إلا كافرا، قال القرطبي: قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك… (تفسير القرطبي (19/ 129). قال النووي: فلو تصدق على فاسق أو على كافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي جاز وكان فيه أجر في الجملة… (المجموع شرح المهذب (6/ 240).
وقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَ: قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ ابْنِهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ؟ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ».
وهذا يعني أن النفقة على غير المسلم مهما كان دينه، حتى وإن كان ملحدا جائزة في المجمل ما لم يكن محاربا للإسلام أو معاديا للإنسانية، أو داعيا إلى فساد، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9].
ومن عظمة هذه الشريعة أن جعلت دفع الزكاة لغير المسلم تأليفا للقلوب، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]، قال ابن كثير: وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام منهم من يعطى ليسلم، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا، قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي… (تفسير ابن كثير ط العلمية (4/ 146).
وعليه فلا أرى مانعا من أن يقرض المسلم غير المسلم؛ بل هذا يدخل في حسن الخلق، كما يدخل في باب تأليف القلوب، وهذا مما جاءت به الشريعة، ولكنه يجب مراعاة التالي:
- ألا يكون هذا الشخص (غير المسلم) محاربا أو معاديا للبشرية أو داعيا لسوء الخلق.
- أن يكون احتياجه للمال ضرورة أو حاجة تقوم مقام الضرورة.
- ألا يكون سيستخدم المال فيما هو مجمع على تحريمه في الشرائع، فلو علم أنه سيستخدم المال في زنا أو ما شابه ذلك فلا يعطه مالا.
هذا، والله تعالى أعلم
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب