تأتي الانتخابات الأمريكية كل أربعة أعوام، وتعد من الانتخابات الأكثر متابعة وأثرا في العالم كله، وفي كل مرة يكون الحديث الأعلى صوتا بين المسلمين: لمن سيعطون أصواتهم؟ وهل يحرم علينا أن نعطي لفلان أو علان أم ماذا؟
وليس من شأني ولا من شأن أحد في حوار أو لقاء أو خطبة أو فتوى أن يوجه الناس إلى شخص بعينه، وذلك لأن هذه القضية ليست من الشأن الخاص، وإنما هي من الشأن العام الذي يجب أن تجمع له الجهود، وتتلاقح من أجله الآراء، وتكثر من أجله النقاشات والحوارات، وسوف ألقي الضوء هنا على ه ا الموضوع في عدة نقاط:
- هذه المسألة من السياسة الشرعية: وبداية فللسياسة الشرعية تعريفات عدّة، وقد خلصت في كتابي (السياسة الشرعية) إلى أنها: القرارات والأحكام التي تصدر من ولي الأمر (حاكما أو عالما) فيما جاء به النص، بحسن تطبيقه وتنزيله، وفيما لا نص فيه بما يحقق للأمة مصلحتها مع مراعاة مقاصد الشريعة، وتجنب مخالفتها… (السياسة الشرعية مبادئ ومفاهيم ….. ضوابط ومصادر/ أكرم كساب/ ص 18)…
وهذا يعني أن السياسة الشرعية مما يختص به الحاكم والعالم كل في تخصصه ومجاله… وقد تحدث العلماء عن المساحة التي تعمل فيها السياسة الشرعية، والصحيح أن السياسة الشرعية تعمل في مجالين:
- الأول: ما جاء به نص.
- والثاني: ما لم يأت به نص.
قال ابن عقيل: هي ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي (الطرق الحكمية/ ابن القيم/ ص 12/ )، وقال ابن نجيم: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد في ذلك الفعل دليل جزئي. (البحر الرائق شرح كنز الدقائق/ (5/ 11). ، وقال المرداوي: ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (10/ 250). وقال خلاف: وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص (السياسة الشرعية/ ص 52).
- أحكام السياسة الشرعية الأصل أنها تدور بين الصواب والأصوب:
وقبل الخوض في هذه المسألة أرى أن نضع نصب أعيينا أن هذه المسألة خاضعة لما يسمى في الفقه بــ (السياسة الشرعية) أو (الفقه السياسي)، والتي تحدث عنها العلماء من قبل تحت مسمى (الأحكام السلطانية- السياسة – الإيالة)، وهذا الباب باب واسع وقد كتب فيه قديما وحديثا، ومن أبرز من كتب قديما: ابن تيمية في (السياسة الشرعية) وغيره، وابن القيم في (الطرق الحكمية) وغيره، والماوردي وأبو يعلى في كتابيهما (الأحكام السلطانية)، والماوردي أسبق وأدق، والجويني في (الغياثي)، وقد لخصه محمد أحمد الراشد في (الفقه اللاهب) وغير ذلك كثير… وحديثا: كتب عبد الوهاب خلاف (السياسة الشرعية)، وللقرضاوي كتاب بنفس الإسلام وله (الدين والسياسة) وغيره، وكتب عبد القادر عودة (الإسلام وأوضاعنا السياسية)، وكتب المودودي (تدوين الدستور الإسلامي)، ومحمد عثمان (رياسة الدولة الفقه الإسلامي)، وكتب محمد أسد (منهاج الإسلام في الحكم)… إلى غير ذلك من هذه الكتب الماتعة في هذا الباب.
ولكن الذي أود أن أشير إليه أن الأصل في مسائل السياسة الشرعية عند تنزيلها أنها لا تقع في دائرة الحلال والحرام أو الحق والباطل وفقط، وإنما تقع في دائرة الصواب والأصوب في كثير من مسائلها ومواقفها، وأن هذه المسائل لو درست دراسة واعية، وكان الاجتهاد من أهله وفي محله فالكل مثاب ومأجور، من أصاب ومن أخطأ.
ومن ذلك مسألة الانتخابات، هل تجوز المشاركة أم لا تجوز؟ وهل المشاركة جائزة أم واجبة؟ ويلحق بذلك من يعطيه المسلمون صوتهم؟ هذا الحزب أم ذاك؟ وهل نشارك أم نقاطع إذا كان الاختيار بين شرين؟!
- التصويت للناخبين شهادة أم وكالة؟
أما تكييف الانتخابات من الناحية الشرعية فقد اختلف فيه المجيزون لها، فقال بعضهم وكالة، وقال آخرون شهادة.
ذهب عدد من العلماء ومنهم مصطفى السباعي إلى كون الانتخابات (وكالة)، إذ اعتبروها وكالة بين الناخب والمرشح، أو بمعنى أدق: صورة من صور الوكالة، لأن الأفراد يختارون من الأمة الأصلح، والأكفأ، والأجدر؛ لينوب عنهم في مراقبة الحكومة وتشريع القوانين (المرأة بين الفقه والقانون ص 155) ، ولهذا فإن الأفراد من حقهم إقالة الرئيس إن خان الوكالة، أو إسقاط النائب على الأقل في الدورة المقبلة، إن لم يكن على قدر المسئولية، أو قدم مصلحته أو مصلحة حزبه على مصالح الأفراد أو البلاد.
وذهب آخرون إلى كونها شهادة وتزكية، إذ يدعى الناس للشهادة على فلان بأنه يصلح أو لا يصلح، أو للشهادة لفلان دون فلان، وأول من ذهب إلى ذلك البنا، وتابعه في ذلك القرضاوي، وأصل لهذا الأمر. وقال بذلك آخرون منهم منير البياتي، وأحمد الطيب، وعلي جمعة، (للمزيد راجع: الانتخابات في الإسلام/ أكرم كساب/ ص 62 وما بعدها)، يقول صاحب كتاب (فقه الدولة): فإذا نظرنا إلى نظام كنظام الانتخابات أو التصويت فهو في نظر الإسلام (شهادة)، للمرشح بالصلاحية، فيجب أن يتوفر في (صاحب الصوت) ما يتوفر في الشاهد، من الشروط بأن يكون عدلًا مرضي السيرة، كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق: 2)، ويمكن أن يخفف من شروط العدالة وأوصافها هنا بما يتناسب مع المقام (من فقه الدولة في الإسلام / ص140.). ويترتب على ترك هذه الشهادة حصول الإثم كما بينا سابقا.
- الانتخابات شهادة ووكالة:
والذي أراه أن الانتخابات تجمع بين الأمرين، فهي شهادة وتزكية، ووكالة وإنابة. فالفرد المرشِح لا ينيب عنه إلا من ثبت لديه أنه قوي أمين، ولا يوكل إلا من وثق في قدراته ليطالب له بحقوقه، وينوب عنه في محاسبة الحكومة وسن القوانين. فعمله من جهة شهادة، ومن جهة أخرى وكالة…. (للمزيد راجع: الانتخابات في الإسلام/ أكرم كساب/ ص 62 وما بعدها).
- لا بد من وجود هيئة تحدد من الأصلح:
ولما كانت مسألة الانتخابات التي تعرض للمسلمين في الغرب من النوازل؛ كان لا بد أن يكون هناك هيئة أو مرجعية (دينية، سياسية، اقتصادية، إعلامية….) تبحث هذا الأمر من كل جوانبه، وأعني بالجوانب هنا أمورا عدّة:
- مصلحة المسلمين المقيمين في بلاد الغرب كل في بلده.
- مصلحة المجتمع الذي يقيم فيه المسلمون المقيمون في الغرب كل في بلده.
- المصلحة العامة للمسلمين المقيمين في الشرق.
- المصلحة العامة العنصر البشري؛ إذ المسلمون أصحاب رسالة ودين يدعو إلى التعايش.
والقول بوجود مرجعية أشار إليه صاحب كتاب (الدين والسياسة) فقال: ولا بد أن يكون ذلك بعد دراسة علمية عملية موضوعية، يقوم بها خبراء ومتخصصون، وأن تناقش هذه الدراسة بين أهل الحل والعقد من الأقلية المسلمة في البلد. وبعد الدراسة والمناقشة والمقارنة، يقرِّر المسلمون: أيهما أفضل لهم دينا ودنيا… (الدين والسياسة/ يوسف القرضاوي/ ص 221).
- من هي الهيئة التي يجب أن ترجع إليها الجالية في مثل هذه النوازل والقضايا الكبرى؟
وإذا كان الواجب أن يكون للجالية رأي في اختيار رئيسهم بما كفله لها الدستور؛ فإن الواجب أن تختار من يمثلها لتحصيل المصلحة العامة للبلاد، وكذلك مصلحة الجالية المسلمة أن يكون ذلك وفق هيئة أو مرجعية.
وهذا الأمر يقتضي أن نعود إلى الوراء لنرى تأصيل ذلك، وأذكر هنا قول ابن خويز منداد؛ حيث يقول: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بأمور الحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها… (الجامع لأحكام القرآن / القرطبي (4 / 250).
وعبارة ابن خويز منداد عبارة دقيقة، إذ جعل لكل تخصص ذويه، فأمور الدين لها العلماء والفقهاء، والأمور الحربية لها قادة الجيوش، ومصالح الأمة تحتاج إلى أهل الحل والعقد.
وأزيد فأقول: إن المصالح العامة لا يجوز أن يقضي فيها صنف برأيه دون بقية الناس، فلا يجوز لعالم ينفرد برأيه، ولا مؤسسة تنحاز إلى أحد المرشحين دون أخذ رأي ذوي الخبرة في كل فن من الفنون وعلم من العلوم؛ بل ينبغي في الأمور العظام أن يجمع المتخصصون من كل فنّ حتى يقدروا للطارئ قدره، ثم يتخذ القرار ويقضي الله أمرا كان مفعولا.
ويمكن تقسيم الناس إلى أقسام في مثل هذه الأمور:
- غير المؤهلين للشورى: ويدخل في هذا الصنف كل من لم يتحقق فيه شرط التكليف؛ فالصغير والمجنون لا مشورة لهم، وفي المسند عند أحمد: ” رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُصَابِ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ” (رواه أحمد (939) وقال محققو المسند: صحيح لغيره).
- جمهور الأمة: ويدخل في ذلك كل بالغ عاقل، وهؤلاء يؤخذ رأيهم في اختيار الحاكم، واختيار أهل الحل والعقد، وفي الاستشارات العامة، ويستدل لذلك بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(آل عمران: 159) فالأمر للجميع لا لفئة دون فئة. وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية:”أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ” (رواه البخاري) ولا شك أن الخطاب لكل الحضور، ولم يخص النبي صلى الله أحدا بالمشورة. وما جاء عن ابن عوف رضي الله عنه في اختيار الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وقد روى البخاري: فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون. ولفظة (المسلمون) تفيد كل المسلمين العامة والخاصة.
- أهل الحل والعقد: وهو النوع المتعلق بأهل الشورى بالمعنى الاصطلاحي السياسي الفقهي؛ زعماء الأمة وأهل المكانة فيها… (نظام الحكم في الإسلام/ عبد الحميد الأنصاري/ ص 71). وهذا النوع يمكن الاستدلال له بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع كبار الصحابة، ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابْنُ عَبَّاسٍ قال: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟»، ومنه ما جاء في محاولة الصلح مع قبيلة غطفان، روى ابن هشام قال: فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيِّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ، فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ وَلَمْ تَقَعْ الشَّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ، إلَّا الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ، بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ…. (السيرة النبوية (2/ 223).
- المتخصصون في كل فن، وهذا النوع يمكن تسميته بــــــــــــــ (الشورى الفنية أو الخاصة، وتكون لأهل الاختصاص من العلماء وأهل الخبرة في مختلف المجالات، ويشترط في هؤلاء التخصص الدقيق، أو الخبرة الخاصة) (نظام الحكم في الإسلام/ عبد الحميد الأنصاري/ ص 71). ويستدل لذلك بما فعله صلى الله عليه وسلم مع سلمان يوم الخندق، والحباب يوم بدر. (للمزيد راجع: الرئيس والرئاسة أحكام وضوابط/ أكرم كساب/ ص 89)
وهذا ما تحتاجه الجالية المسلمة في كل مكان عند تحديدها من ترشح ومن تختار، فهذا منوط بذوي الرأي والفكر من الأفراد والمؤسسات العاملة في خدمة المجتمع المسلم والبلد الذي تعيش فيه.
والذي أعتقده أن هذا ليس من حق مؤلف في كتابه، ولا كاتب في مقاله، ولا خطيب على منبره، ولا مؤسسة بمفردها، ولا هيئة مستقلة بذاتها، نعم أوكد بأنه يجب ألا رأيا فرديا ولا فتوى أحادية، وإنما يجب أن يؤخذ في هذا المتخصصون، وأعني بالمتخصصين: أن تكون هناك لجنة من الخبراء، وعلى رأسهم:
- علماء الشريعة.
- ساسة متخصصون.
- إعلاميون بارعون.
- اقتصاديون ماهرون.
- علماء اجتماع.
على أن يكون هؤلاء ذوي خلفيات متعددة، فلا تكون أصولهم عربية خالصة مثلا، ولا إفريقية فقط، أو من الجيل الأول أو الثاني أو الثالث فقط، وإنما يجب أن يجمعوا بين هذا كله، ويكون دورهم: هو الموازنة بين المرشحين لاختيار الأفضل والأحسن، أو الأقل ضررا، مع مراعاة قوانين البلد في هذا كله.
قد يكون هذا رأيا جامعا لكل المسلمين، وقد تكون المصلحة في كون كل جالية في كل ولاية تعطي رأيها لما يحقق لها مصلحتها، لكن ذلك أيضا يكون بالتشاور والتناصح.
- المسلمون لا (بابا) ولا (ماما):
والحق أن أكبر آفات الأمة الإسلامية الآن أنها تفتقد إلى القائد الذي يأخذ بيدها إلى الهدى والنور، تفتقد إلى القائد في عالم السياسة كما تفتقد إلى القائد في عالم الشرع والدين، وإن كان للأسف الشديد كلما لاح في الأفق من تظهر فيه علامات القيادة اغتالته يد الطغاة أو غيبته سجون الظلمة، وفي بعض الأوقات إن نجا من هؤلاء حاربه المتطفلون في عالم السياسة وعالم الدعوة، وأصبحنا كما قال القائل: (المسلمون لا بابا ولا ماما).
- هل المشاركة واجبة أم جائزة؟
وقد يسأل سائل فيقول: هل المشاركة في الانتخابات جائز أم واجب؟ وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب المشاركة في الانتخابات في الغرب، ورأوا ترك المشاركة مما يوجب الإثم والذنب، ويفهم هذا من كلام القرضاوي حيث يقول: ولهذا تحتاج الأقلية في أي بلد إلى أصوات تعبر عنها في المجالس التشريعية والبلدية، وتدافع عن حقوقها، حتى لا تصدر تشريعات تجور عليها، وتحرم عليها ما أحل الله، أو تعوقها عن أداء ما فرض الله، أو تلزمها بأمور ينكرها الشرع… (الدين والسياسة/ ص 221). وقال بذلك محمد أحمد الراشد، حيث يقول: أصبحتُ أرى عدم الاكتفاء بتجويز الإدلاء بالصوت الانتخابي، وأن مَن شاء فعل ومن شاء سكت وتخلّف، بل أنا الآن أجزم بيقينٍ أن إدلاء المسلم بصوته لصالح المعتدل الأقل ضرراً الأقرب إلى الحياد إنما هو واجب في النظر الشرعي لا يسعه التخلف عنه، ويأثم المتخلف من غير عذر…. ولا ينبغي لمسلم أن يتقاعد ويتكاسل عن الإدلاء بصوته إذا رأى أن رجحان فوز المعتدل يكون مضموناً ومؤكدا… (islamonline.net). وقال بذلك صلاح سلطان: وهو ظاهر من عنوان كتابه حيث جعل عنوان كتابه: (مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية وجوبها وضوابطها الشرعية).
شروط وضوابط للوجوب:
والقول بالوجوب هو أرجح عندي من الجواز، وذلك لما يترتب على المشاركة من مصالح ومنافع للمسالمين، ولما في الترك من ضياع لحقوق وإظهار لسلبية وانعزال عن المجتمع، ولكن بشروط وضوابط، ومن أهمها:
- أ- أن تكون هناك هيئة ومرجعية (دينية سياسية اقتصادية….) توازن بين المرشحين.
- ب- ألا يشتهر المرشح المختار بالعداوة للإسلام والمسلمين.
- ت- أن يكون المرشح المختار ذا قوة فيما رشح له.
- ث- أن يكون في الانتخاب والاختيار العمل على إنجاح الأفضل وإبعاد الأسوأ.
- ج- أن يكون في الاختيار تحقيق لمصالح لكل المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون.
- ح- أن يكون في الاختيار تحقيق لمصالح المسلمين كذلك.
- خ- أن يترتب على ترك الانتخاب تقوية فرصة نجاح عرف بالفساد أو العداء للإسلام.
- هل يقاطع المسلمون الانتخابات؟
وقد يقول قائل: إن المشاركة في هذه الانتخابات لا فائدة منها، لأنه لا مصلحة للمسلمين لا مع هذا الحزب، ولا مع ذاك، لأننا أصبحنا كما قال القائل:
ويُقضى الأمر حين تغيبُ تَيْم ولا يُستأذنون وهم شهودُ
ولا شك أن شريعة الله تدور مع المصلحة حيثما كانت، وقد قال ابن تيمية: والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها… مجموع الفتاوى (1/ 265). ويقول ابن القيم: الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل… (إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11).
والأصل أن مصلحة المسلمين في المشاركة لا المقاطعة، وقد حقق المسلمون العديد من المشاركة السياسية في الماضي… وقد تكون المصلحة في المقاطعة، لكن القول بالمقاطعة يجب ألا يصدر إلا بعد دراسة متأنية من هيئة متخصصة -كما أشرت من قبل- ويراعى في ذلك:
- قوانين ودستور البلاد.
- مصلحة المسلمين ومجتمعهم الذي يعيشون فيه.
- المصلحة العامة للمسلمين أينما كانوا.
- ماذا لو اختار المسلمون الرجل غير المناسب؟
وهنا يأتي السؤال المهم: ماذا لو اختار المسلمون الرجل غير المناسب؟ والحق أن هذا وارد، ولعل البعض يقول: إن المسلمين لا يحسنون الاختيار، أو أنهم ما زالوا يعيشون في حالة من الساذجة السياسية، وربما لم يستفيدوا مما نسب إلى عمر وغيره: لست بالخبء ولا الخبء يخدعني.
لكن المسلم لا يلام إن ظن خيرا بأحد وخدعه الآخر، لكننا نقول رفع الخطأ أو الإثم إنما يكون بعد أخذ الرأي والمدارسة فيما يختاره المسلمون، فإن كان الاختيار بعد دراسة وتشاور، وجلوس ومشارطة؛ ثم وقعت الخديعة فلا لوم ولا إثم إن شاء الله تعالى.
وأخيرا فإني أقول: إن المسلمين مقدمون على انتخابات حساسة وفاعلة، ولهذا ينبغي أن يكون شعارهم ما قاله الله على لسان سحرة فرعون: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه: 64].