هل يجوز القول (عيب خِلْقي) أو (تشوه خِلْقي)؟

  1. السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله بكل خير… هل يجوز أن نقول خلق الله به (عيب خِلْقي) (أو خَلْق مشوّه)؟ وهل يدخل هذا في سوء الأدب مع الله؟!

ملخص الفتوى:

فلا شك المسلم مطالب بالأدب مع الله قولا وفعلا واعتقادا، ومن ثم فلا يجوز نسبة النقص إليه، وقد يرى البعض حرمة هذا الوصف لأنه فيه سوء أدب مع الله، لكن الذي أراه هو جواز هذا القول، لأن هذا الوصف إنما هو من باب نسبة العيب للخلق لا للخالق سبحانه، وهو وصف الخلق بالعيب لا ذما ولا قدحا وإنما وصفا وشرحا، كما أنه أن وصف الخلق بالعيب إنما يكون مقارنة لما خلقه الله كاملا بلا عيب، كما أن هذا الوصف ورد على ألسنة الفقهاء من القديم، الفقهاء، فمن رأى ترك ذلك تأدب مع الله فبارك الله فهمه، وجزاه الله خيرا على حسن أدبه وإدراكه، وأنعم الله عليه بحرصه على تنزيه ربه ومولاه، ومن رأى في جواز القول بهذا الوصف فلا لوم عليه، إذ النصوص تسانده، وأقوال الفقهاء تدعمه، وهو لم ينل في ذلك من كمال الله وقدرته، ولا انتقص من إبداع الباري وعظمته، وهذا الذي أميل وأقول به….

 الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛

أما بعد

فهذا القول من المسائل التي قد تثار بين الناس والعلماء، وقد يمنعها البعض ويجيزها آخرون، ولكل حجة، وبيان ذلك على هذا النحو:

القول الأول: الحرمة: ولأصحاب هذا القول أن يستدلوا بما يلي:

  1. أن الأصل في خلق الله الجمال والحسن، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 7، 8]، وقال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]. ومن ثم فلا يقال: عيب خلقي.

ويجاب عن ذلك: بأن هذا لا يختلف فيه اثنان؛ بل هو مما تشهد له الفطر السوية، والقلوب النقية، وعلى هذا يتربى المؤمنون، فالجمال أصل في خلق الله سبحانه، وقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»، ولكن القول بالعيب أو النقص ليس وصفا لله، وإنما هو وصف للمخلوق، ومن باب إقرار الواقع.

  1. إن وصف الخلق بالعيب إساءة إلى الله سبحانه، إذ لا ينسب إليه إلا الخير والحسن، ولهذا لم ينسب الخليل عليه السلام المرض إليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} [الشعراء: 78 – 83]، وفي مسلم: “لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ”.

ويجاب عن ذلك: بأن هذا الأدب الذي ظهر على لسان أنبياء الله وأوليائه إنما المقصود منه هو عدم نسبة الشر المحض الكلي إليه، أما ما كان شرا من جهة وقد يحمل الخير من جهة أخرى فلا مانع، قال ابن القيم: وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمته وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب سبحانه لا يفعل سوأ قط كما لا يوصف به ولا يسمى باسمه بل فعله كله حسن وخير وحكمة كما قال تعالى بيده الخير وقال أعرف الخلق به: “والشر ليس إليك” فهو لا يخلق شرا محضا من كل وجه بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزه عنه وليس إليه… (شفاء العليل/ ص 169).

لا مانع من قول (عيب خِلْقي) أو (تشوّه خِلْقي):

وأرى أنه لا مانع من إطلاق هذه الأوصاف، وذلك ليست جرأة على الله، ولا سوء ادب معه سبحانه، وإنما لأن الشريعة لا تمنع من ذلك، بل جاءت بمثل هذه الأوصاف نصوص الشرع، وأقوال الفقهاء، وأدلل على ذلك بما يلي:

  1. المضغة المخلق خلق ناقص وليس بتام: أن الله تعالى وصف بداية الخلق الإنسان في بطن أمه، أنه يكون مضغة مخلقة، وقد تكون غير مخلقة، قال تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } [الحج: 5]، قال القرطبي: وقد قيل: إن قوله:” مخلقة وغير مخلقة” يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط، أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام… (تفسير القرطبي (12/ 9). وها نحن نرى القرطبي ينقل وصف خلق الله بأنه (ناقص)، وما الفرق بين أن نقول: (خلق ناقص) وبين أن نقول: (خلق معيب) أو (خلق مشوه)؟!!
  2. نسبة العيب للخلق لا للخالق سبحانه: أن وصف الخلق بالعيب إنما لتقرير واقع لا لنسبته إلى الله، كما أن الله وصف خلقه بذلك في قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، هذا تقرير لحال بعض خلقه، والله جلا وعلا يحدثنا عن واقع الخلق المختلف والمتباين.
  3. وصف الخلق بالعيب لا ذما ولا قدحا وإنما وصفا وشرحا: نعم فما يقال هنا لا يقال ذما ولا قدحا أو تعييرا وذما، وإنما يقال وصفا وشرحا، وهذا إنما يكون عند الحاجة، ومن ثم فلا مانع من ذلك، ولذلك تحدث الله عن رفع الحرج عن أصحاب الأعذار فذكر ما فيهم فقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17].
  4. أن وصف الخلق بالعيب إنما يكون مقارنة لما خلقه الله كاملا بلا عيب: فلا يجرؤ مسلم أن ينسب ذلك العيب لله اتهاما بالعجز أو النقص، وإنما ذلك (العيب) أو (التشوّه)؛ إنما هو باعتبار غيره الذي أبدعت فيه يد الخلق خلقا وإبراء وتصويرا، كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 – 8]، وقوله جلا في علاه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
  5. جاء الوصف بما يشبه ذلك في كتب السنة: ومن ذلك ما رواه أحمد مسند عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ “. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا.. (قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين)، فأنس رضي الله عنه وصف زاهرا وهو من الصحابة بــ (الدمامة) وهي القبح في المنظر، وفي سبب طلب بريرة الطلاق من ثابت بن قيس ذكرت أنه دميما، روى أحمد عن سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: كَانَتْ حَبِيبَةُ ابْنَةُ سَهْلٍ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيِّ فَكَرِهَتْهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَا أَرَاهُ، فَلَوْلَا مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَبَزَقْتُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ؟” قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ (قال محققو المسند: حسن لغيره).
  6. الفقهاء من القديم يقولون بذلك: حيث ورد وصف بعض الخلق بالعيب في كلام العلماء من القديم، ولم يقصدوا بذلك أبدا سوء أدب مع الله، ومن ذلك:
    • جاء في (قليوبي وعميرة) وسواء كان العيب خلقيا أو حادثا… (حاشيتا قليوبي وعميرة (3/ 35).
    • جاء في حاشية ابن عابدين: بقدر آلة رجل معتدل الخلقة. (حاشية ابن عابدين (3/ 204).
    • جاء في (نهاية المحتاج): ينبغي أن لا يجب غسل ما زاد على ما يكون غاية للوجه من معتدل الخلقة من أمثاله… (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (1/ 167).
    • جاء في (شرح منتهى الإرادات): والواجب في فطرة (صاع بر) أربعة أمداد بصاعه صلى الله عليه وسلم وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل الخلقة. (شرح منتهى الإرادات (1/ 442).
  7. باب كامل في العيوب التي بها التفريق بين الزوجين: ولا يخفى ما ذكره الفقهاء جميعا في باب النكاح، وبالتحديد فيما يتعلق بفسخ النكاح، فتحدثوا جميعا عن العيوب التي يكون بها التفريق بين الزوجين، جاء في (الموسوعة الفقهية): اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز التفريق بين الزوجين للعيوب…. (الموسوعة الفقهية الكويتية (29/ 67)، وقد ذكر ابن القيم ما ذكره الفقهاء في العديد من المذاهب حول العيوب، ثم قال: وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها، فلا وجه له فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين، أو الرجلين أو إحداهما، أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا… والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار وهو أولى من البيع… (زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 166).

التلطف في اللفظ خير مراعاة لأصحاب الأعذار:

لكن ينبغي التلطف في اللفظ والعبارة، وهذا شأن ذوي الألباب، والله يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقد كان من جميل ما عرف به العرب قب الإسلام أنهم يسمون: الأعمى بصيرا، واللديغ سليما، والمريض صحيحا، وفي هذا ما فيه من مراعاة الآخر، وهذا مع الله من باب أولى.

وأخيرا:

فمن رأى ترك ذلك تأدبا مع الله فبارك الله فهمه، وجزاه الله خيرا على حسن أدبه وإدراكه، وأنعم الله عليه بحرصه على تنزيه ربه ومولاه، ومن رأى جواز القول بهذا الوصف -وهذا ما أراه راجحا-  فلا لوم عليه، إذ النصوص تسانده، وأقوال الفقهاء تدعمه، وهو لم ينل في ذلك من كمال الله وقدرته، ولا انتقص من إبداع الباري وعظمته.

 هذا والله تعالى أعلم

الفقير إلى عفو ربه

أكرم كساب

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*
*