- السؤال: مولانا الشيخ: طلب مني أحد الناس قرضا، علما بأنه يأتي بعض المعاصي، فهل يجوز لي أن أقرضه أم أمتنع؟ أريد جوابا بارك الله فيك…
ملخص الفتوى:
القرض من أفضل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله، وكلنا مذنبون، وفي الحديث: “كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، فَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ”، ولكن المعصية لا تمنعنا من إقراض الغير، لكن إن كان المقترض سيستخدم القرض في معصية فيحرم إعطاؤه مالا، عاصيا كان أم طائعا، وإن كان سيستخدمه في طاعة فللمقرض الأجر العظيم عند الله تعالى.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد؛
فتنفيس الكرب من أعظم القربات، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”.
ولا شك أن إقراض المدين من أعظم تنفيس الكرب، روى أحمد عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ، فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» (قال محققو المسند: حديث صحيح، وصححه الألباني).
ومعلوم أن القرض مندوب، قال ابن قدامة: والقرض مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض… المغني لابن قدامة (4/ 236).
ولا مانع من أن يقرض المسلمُ العاصيَ، وذلك لأنه لا يخلو أحد من المعصية، فكلنا بشر، روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، فَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ” (حسنه الألباني)، وقد يكون ذلك من باب الدعوة وتأليف القلوب، وقد أجاز الله تعالى دفع الزكاة لغير المسلم تأليفا للقلوب، فما بالنا بالمسلم العاصي؟ هذا جائز من باب أولى؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]، قال ابن كثير: وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام منهم من يعطى ليسلم، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركا، قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي… (تفسير ابن كثير ط العلمية (4/ 146).
ولكن يجب أن ننظر إلى هذا العاصي، فهو واحد من اثنين:
- أن يكون استخدامه لهذا المال في أمور معيشته هو ومن يعول، كطعام أو شراب أو علاج أو تعلم، وهذا لا مانع منه، وهذا يدخل في عموم ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ”.
- أن يكون سيستعين بهذا المال في معصية، وفي هذه الحال لا يجوز إقراضه، وذلك بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. قال زكريا الأنصاري: فيه -القرض- إعانة على كشف كربة… نعم إن غلب على ظنه أن المقترض يصرفه في معصية أو مكروه لم يكن قربة… (أسنى المطالب في شرح روض الطالب (2/ 140).
مع العلم أنه يجب أن ننظر إلى المصلحة دائما، فقد يكون من المصلحة أن تعطي العاصي، ويكون ذلك من باب التأليف، وقد يكون من المصلحة هجر هذا العاصي بعدم إقراضه، فإن كان في عدم القرض مصلحة بتوبة أو إقلاع عن ذنب فالمشروع هو هجره بعدم إقراضه، يقول ابن تيمية: فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف… (مجموع الفتاوى (28/ 206).
وعلى ذلك فإن كان المقترض سيستخدم القرض في معصية فيحرم إعطاؤه مالا، عاصيا كان أم طائعا-، وإن كان سيستخدمه في طاعة فللمقرض الأجر العظيم عند الله تعالى.
هذا، والله تعالى أعلم
الفقير إلى عفو ربه
أكرم كساب